وينطوي تاريخنا الثقافي على قصص عديدة من هذا النوع الأخير لعل أشهرها قصة ولد سعيد ولد عبد الجليل و" منت البار" . فقد خلقت هذه القصة من بطلها (ولد عبد الجليل) واحداً من كبار شعراء الغزل الشعبي، تاركاً وراءَه نصوصاً في غاية الجمال والإبهار والرقة.
"بنت البار".. قصة عشق موريتانية تحولت لعرض مسرحي
و مؤخرا فاز عرض مسرحي موريتاني باسم "منت البار" (بنت البار)، وهو عمل فني مستوحى من قصة من التراث المحلي، بإحدى جوائز المهرجان الدولي للمسرح في الصحراء بتونس.
وحصل العرض المسرحي الذي قدمته "جمعية إيحاء للفنون الركحية"، الخميس الماضي، بجائزة أفضل عرض متكامل مناصفة مع العرض المسرحي الإيراني "شيبة"، وذلك في ظل وجود عدة عروض مسرحية تمثل دول من بينها، المغرب وتونس وإسبانيا وإيطاليا.
واقتبس العرض المسرحي من قصة "بنت البار" المتداولة في الموروث الشعبي الموريتاني، مع إضافات شعرية وتصرف في بعض الأحداث والجزئيات في القصة.، وجعلها أكثر ثراء ودرامية.
كما سبق للتلفزيون الموريتاني أن أنتج مسلسلا يظهر أحداث قصة "منت" البار مع الكهل الذي قدم تضحيات للتقرب منها وأضحى من بين أفضل الشعراء الشعبيين بعد ذلك.
وعرضت بنت البار لأول مرة شهر ديسمبر الماضي، في « مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي » الذي نظمته دائرة الثقافة بالشارقة، كما شاركت في مهرجان مدائن التراث الذي احتضنته مدينة تيشيت التاريخية.
وتم عرض المسرحية أيضا، ضمن فعاليات الاحتفال بنواكشوط عاصمة للثقافة في العالم الإسلامي، التي انطلقت مع بداية العام الجاري.
"منت البار" ملحمة موريتانية
انطلاقاً من حكاية شعبية متوارثة في السرديات الشفهية بموريتانيا، تتشكّل أولى الملامح المشهدية في مسرحية «منت البار» من خلال تكويناتٍ مُستَلّةٍ من عمق الذاكرة الصحراوية.
و قد مزجت لغة العرض بين الفصيحة واللهجة الحسانية، وهي لهجة بدوية مشتقة من العربية، تحدثت بها قبائل بني حسان الذين سيطروا على أغلب صحاري موريتانيا ومالي وجنوب المغرب بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر، والحسانية كما توصف هي أقرب اللهجات إلى العربية الفصيحة.
يبدأ الجزء الاستهلالي للمسرحية ، بتناول طقوس الاستسقاء والدعاء كي تهلّ بشائر المطر وتروي سكان قبيلة «المنارة» الذين هلك حرثهم وتضررت مواشيهم وإبلهم وخيولهم من القحط وشحّ المياه، ويلجأ مخرج العرض «سلي عبدالفتاح» إلى حيلة ذكية بتحويل أجساد الممثلين إلى ما يشبه الغيوم البيضاء المتحركة وكأن القيمة الروحية للدعاء باتت متحقّقة من شدة الحاجة وإلحاح الطلب، وهو ما يحدث فعلاً بعد أيام قليلة عندما تهطل الأمطار بغزارة. ووسط هذا الكرنفال الاحتفالي بميلاد الحياة في الطبيعة المقفرة، ينعطف المسار السردي للعرض نحو فضاء حكائي مختلف ومتشعب، يبدأ مع احتفاء أفراد القبيلة بـ«محمد البارّ» الورع والتقي وصاحب الأخلاق الرفيعة الذي كان وجوده في القبيلة سبباً في حلول البركة عليها، وزيادة الأمن والاطمئنان فيها.
لغز
أما عنوان المسرحية وهو «منت البارّ»، فيشير إلى المنطوق اللفظي الشعبي الموريتاني لكلمة (بنت) والمقصود بها هنا الفتاة عزيزة ابنة محمد البارّ التي ترث صفات والدها صاحب الحظوة والخلق الكريم، إضافة لتمتعها بالجمال وبموهبة نظم القصائد المرهفة واللافتة الشبيهة بشخصيتها، الأمر الذي يدفع ثلاثة أشخاص من شبان القبيلة للتنافس على كسب رضاها ورضا والدها حتى يتوجوا هذا الرضا بالزواج من أكثر فتيات القبيلة نبلاً وتميزاً. ومن أجلها باتوا يتبارزون شعراً وفروسية وتضحية وذوداً عن الحمى، خصوصاً بعد أن تقوم عصابة من قطاع الطرق التي يقودها شخص يكنّى بـ«الضبع» بالإغارة على القبيلة ونهب ممتلكاتها، والأهم من ذلك الظفر بالفتاة عزيزة «منت البار» بسبب ذيوع اسمها وشهرتها بين قبائل المنطقة. ومن هنا ينشأ الصراع المحموم والمحتدم بين الأخيار والأشرار، ويصل الأمر للمجابهة المباشرة بين الطرفين، وتبدأ الحرب التي يطلق عليها أهل الصحراء «الكريهة» نظراً لما تخلّفه من مصائب وويلات وخسارات، ووسط غبار المعركة وتصادم الفرسان وهلع الأطفال والنساء، ترجح الكفة لصالح أبطال قبيلة «المنارة» وينهزم قطاع الطرق بعد مقتل قائدهم «الضبع».
تأثير تفاعلي
ومسرحية «منت البار» من إنتاج: فرقة إحياء للفنون الركحية بموريتانيا، وشارك في الجانب الأدائي كل من: سلي سليم، والمختار الشيخ مراد، وعيشة موسى، ومحمد سويلم... واحتشدت المسرحية بالقصائد النبطية والفصيحة التي اشتهر بها بلد المليون شاعر، وكان لإلقاء القصائد في ثنايا الحبكة الرئيسة للعرض أثر ملحوظ في تماسك مكوناته المشهدية المترجمة لحالات متناوبة بين الهدوء وقت السلم، والصخب وقت المعركة، وتمتعت الأغاني التراثية والموسيقا الفلكلورية بحضور قوي وتأثير تفاعلي مع عناصر الفرجة المسرحية الأخرى.