هذا التعطيل لم يخلق فراغاً قانونياً فحسب، بل أدى إلى إحالة مئات الأعوان على البطالة ، ما عمّق أزمة الثقة في قدرة مؤسسات الدولة على تنفيذ تشريعاتها الإصلاحية.
قانون بلا أجنحة
جاء القانون الجديد حاسماً لوضع حدّ لظاهرة العقود محدودة المدة والمناولة في الإدارات والمنشآت العموميةذات الصبغة الصناعية والتجارية، حيث نصّ صراحة على تحويل العقود التي لا تندرج ضمن الاستثناءات ( إنجاز عمل موسمي أو ظرفي، تعويض عامل في عطلة مرضية أو عطلة ولادة، تنفيذ مشروع محدّد في الزمن، عقود التجربة القصيرة، أو الوظائف الممولة مؤقتًا أو خارجياً.) إلى عقود غير محددة المدة آلياً.
لكن سرعان ما اصطدم هذا الطموح القانوني بجدار الواقع الإداري.
إذ بقي النصّ التقدّمي " معلّقًا " على رفوف الإدارات، في ظلّ غياب الأوامر الترتيبية التي تُحدّد آليات وشروط التنفيذ.
ويؤكد خبراء قانون الشغل أنّ هذا الغياب هو السبب الرئيسي في شلّ عملية التسوية والإدماج، وأنّ الإدارة لا يمكنها تسوية وضعيات الأعوان أو إنهاء عقود المناولة دون وجود تعليمات تنفيذية واضحة.
مؤسسات عمومية خارج الإطار
في الوقت الذي كان يُنتظر فيه أن تبادر مؤسسات الدولة بتطبيق القانون الجديد بوصفها القدوة في احترام التشريعات، لجأت بعض الهياكل و المنشآت العمومية إلى عدم تجديد العقود محدودة المدة، وأحالت أصحابها على البطالة القسرية بدل تسوية وضعياتهم وتحويل عقودهم إلى قارة.
هذا السلوك أثار موجة استياء واسعة، واعتبره خبراء في قانون الشغلخرقًا صريحًا لروح القانون وعدوانًا على الحق في العمل اللائق.
كما حذّر مختصون من أنّ تأخر تنفيذ القانون يُضعف الثقة في المنظومة القانونية برمّتها، ويهدّد استقرار المناخ الاجتماعي والمهني.
و يقول أحد أساتذة قانون الشغل إنّ " القوانين الاجتماعية لا تكتسب قوتها من صدورها بالرائد الرسمي، بل من إرادة الدولة في تفعيلها على أرض الواقع".
بين الالتفاف والصمت الإداري
في ظلّ الغموض الذي أحدثه غياب الأوامر الترتيبية، اختارت بعض المؤسسات والمنشآت العمومية “الطريق الأسهل”: إنهاء عقود الأعوان محدودة المدة بمجرد انقضاء آجالها.
وبذلك، تحوّل قانون الإصلاح إلى أداة لتسريح العمال بدل تسوية أوضاعهم، في مفارقة مؤلمة تُظهر حجم الفجوة بين النصّ والتطبيق.
ويرى خبراء في قانون الشغل أنّ هذه الممارسات تمثّل تحايلاً قانونيًا على روح الإصلاح الاجتماعي، معتبرين أنّ القانون الجديد، رغم أهميته، بقي هيكلاً دون روح.
وقد عبّر العديد من العمال المتضرّرين عن إحباطهم من غياب التطبيق، مؤكدين أنّ “القانون الذي جاء لحمايتنا أصبح سببًا في فقدان وظائفنا”.
وفي المقابل، تلتزم السلطات الرسمية الصمت، ما يزيد من شعور العمال بالخذلان ويفتح الباب أمام التأويلات، في وقت تتعالى فيه الدعوات إلى الإسراع بإصدار الأوامر الترتيبية وتفعيل الرقابة على المؤسسات المخالفة.
الدولة مطالَبة بأن تكون القدوة
اللافت في هذا الملف أنّ القانون عدد 9 يخصّ مؤسسات الدولة نفسها، ما يجعل عدم التزامها بتطبيقه سابقة خطيرة.
فالدولة مطالَبة بأن تكون القدوة في احترام تشريعاتها، لا أن تكون أول من يلتفّ عليها.
إنّ تأخر تنفيذ القانون لا يهدّد استقرار مئات العائلات فحسب، بل يضرب الثقة في المنظومة القانونية والإدارية برمّتها.
ولن تكتسب هذه التشريعات قوتها إلا من خلال إرادة سياسية وإدارية صادقة لتفعيلها على أرض الواقع.
المطلوب اليوم واضح وملح الا وهو الإسراع بإصدار الأوامر الترتيبية، فتح تحقيقات في المؤسسات التي أنهت عقود الأعوان، وتحديد جدول زمني لتطبيق القانون بصفة عادلة وشاملة.
و اخيرا لقد تحوّل قانون الشغل عدد 9 لسنة 2025 من وعدٍ كبير بإنهاء هشاشة الشغل إلى انتظارٍ طويل أثمر إحباطًا وبطالة.
و الكرة الآن في ملعب الدولة:فإمّا أن تُترجم وعود الإصلاح إلى أفعال، أو تترك القانون عدد 9 مجرّد حبرٍ على ورق...
ولكن يبقى السؤال قائمًا هل يكفي إصدار القوانين دون إرادة حقيقية لتطبيقها؟ أم أن العدالة الاجتماعية في تونس ما زالت تنتظر " أمرًا ترتيبيًا" لتتحقّق؟