Print this page

حكاية طفل يعيش داخل الهاتف ... قصة تعكس واقعًا تونسيًا مؤلمًا

تشرين2/نوفمبر 14, 2025

في أحد أحياء تونس الهادئة، كانت مها تراقب ابنها كريم ذي الست سنوات وهو جالس على الأريكة، يحدّق في شاشة هاتف صغيرة بكل تركيز. العالم حوله يتحرك… لكن كريم لم يكن جزءًا منه.

اقتربت منه وقالت بلطف:" يلا يا ولدي، برّا نخرجوا شوية نلعبوا في الحديقة . "

لم يرفع رأسه. لم يسمعها أصلًا. أصابعه الصغيرة تتحرك بسرعة فوق الشاشة.

تنهدت مها وهي تتمتم:" ولدي يعيش داخل التلفون…..." تنهيدة مها تختصر معاناة آلاف الأسر التونسية التي استسلمت لـ   " المهدئ الرقمي".

لحظة الانفجار: صدمة نفسية وتكلفة مالية

عندما قررت مها سحب الهاتف، تغيّر كريم كليًا. تحوّل الغضب إلى صراخ ونوبة عارمة. عيونه اتّسعت، صوته ارتفع، وبدأ يصرخ ويرمي الأشياء من حوله.

 كانت تلك اللحظة هي التي أيقظت مها على حقيقة أن الأمر لم يعد لعبًا بريئًا، بل " تعلق مرضي"يتطلب تدخلاً.

كانت الخطوة التالية زيارة الأخصائية النفسية، وبدأت تظهر التكلفة الاقتصادية الصامتة: فواتير الجلسات التي باتت جزءًا من ميزانية الأسرة.

" أنا فقدت السيطرة، وما عادش نعرف كيفاش نرجّعو لواقعو،"  تقول مها، وهي تدرك أن دفع تكاليف الجلسات النفسية أصبح بنداً جديداً ، و ثمنًا للهروب الطويل من الواقع.

مشهد يتكرر في كل بيت

مها ليست وحدها، آلاف الأمهات في تونس يعشن المشهد نفسه كل يوم:

طفل لا يأكل إلا إذا كان يشاهد فيديو، طفل لا ينام دون الهاتف، طفل يرفض اللعب في الخارج

طفل يغضب ويصرخ إذا انقطع الإنترنت....

أصبح الهاتف مثل بوّابة يدخل منها الطفل إلى عالم ملوّن وجاهز وسريع… عالم يفضله على الواقع.

التشخيص الصادم: اضطرابات نفسية وتأخر نمائي

بعد جلسة طويلة، جاء تشخيص الأخصائية صادماً وواقعياً: "كريم موش وحدو... الجيل هذا الكل يعيش إدمانًا صامتًا."

وأشارت الطبيبة إلى الآثار النفسية العميقة التي تتجاوز العصبية اللحظية:

  1. فقدان آليات التأقلم:الطفل الذي يلجأ للشاشة لتجنب الملل أو الإحباط يفشل في تطوير مهارات الصبر وحل المشكلات. هذا يجعله عرضة لزيادة مستويات القلق الاجتماعي مستقبلاً.
  2. التدهور النمائي:"الطفل يلي يقعد بالساعات قدّام الشاشة ينغلق على نفسو... يتعلم أقل، ويتكلم أقل، ويتفاعل أقل." وهذا يهدد تطوره المعرفي والاجتماعي.
  3. اضطرابات النوم:الضوء الأزرق يفسد إيقاع النوم الطبيعي، مما يفاقم العصبية وتقلب المزاج في اليوم التالي.

" ينجم يرجع، لكن لازم صبر، تنظيم، وبدائل تخليه يتعلّق بالحياة مش بالشاشة. "

كانت كلماتها كصفعة لطيفة… لكنها أيقظت مها.

البُعد الاقتصادي الأكبر: هدر الموارد البشرية

إن التكلفة الحقيقية ليست فقط في فواتير الأخصائيين، بل في هدر الموارد الاقتصادية المستقبلية للدولة فالأطفال الذين يعانون من ضعف التركيز الناتج عن الإدمان الرقمي يواجهون صعوبات أكبر في المدرسة، مما يؤثر على جودة التعليم والإنتاجية المستقبلية للقوة العاملة التونسية.

كما تضطر الأسر لزيادة الإنفاق على حزم الإنترنت وشراء "المهدئات الرقمية"، بدلاً من الاستثمار في أنشطة تنمية المهارات الحقيقية (الرياضة، الموسيقى، المكتبات...)

وفي بعض الحالات، تضطر الأمهات مثل مها إلى تقليل ساعات العمل أو التوقف مؤقتاً لمتابعة علاج الطفل، مما يؤدي إلى خسارة في دخل الأسرة.

 بداية التغيير: العلاج باللعب الواقعي

قررت مها تجربة "العلاج بالبدائل". خبّأت الهاتف، ووضعت على الطاولة: كتب تلوين، معجون تشكيل، ألعاب تركيب وسيارة صغيرة كان يحبها في الماضي...

جلس كريم متردداً، ثم بدأ يلمس الألعاب ببطء. بعد دقائق، أطلق الضحكة الصغيرة المنسية.

"يمكن نرجّعو... خطوة بخطوة،"تهمس مها، مدركة أن العودة تتطلب صبراً وتنظيماً، وأن إنقاذ طفلها من الإدمان هو استثمار في صحته النفسية ومستقبله الاقتصادي.

رسالة لكل وليّ أمر

قصة كريم هي قصة جيل كامل يعيش بين عالمين: عالم حقيقي يحتاج انطلاقاً وركضاً وضحكاً، وعالم افتراضي جذاب، سهل، لكنه يلتهم الوقت والمشاعر والقدرة على التكيف. إدمان الشاشات لا يسرق طفولتهم فقط… بل يسرق علاقتنا بهم.

العودة ممكنة، إذا فتحنا لهم أبواب اللعب، الحوار، والخروج للطبيعة، وعالجنا المشكلة من جذورها النفسية والاقتصادية.

Rate this item
(0 votes)