" من المطبخ إلى العلامة التجارية "
داخل منزل بسيط في إحدى مناطق سليانة، تستقبلنا " آمنة" ، امرأة في الأربعينيات، وهي ترتّب قوارير زيت الأعشاب الطبية على رفّ خشبي صنعه زوجها بيديه. عيونها تحمل لمعان الحماس، وابتسامتها تسبقها بثقة نابعة من سنوات من العمل الصامت والاجتهاد.
تقول آمنة: "تعلمت من يوتيوب، وجربت نخدم في الدار، نصنع دبابشي ونبيع في صمت... عملت صفحة فيسبوك، صورت منتجاتي، وبدأت الطلبات تزيد... كنت وحدياليوم عندي ماركة معروفةو منتوجي يدخل لمعارض في تونس والجزائرونخدم معايا أربع نساء من حومتي."
مشروعها، الذي بدأ بوصفات تراثية تنتقل من جيل إلى جيل، أصبح اليوم علامة تجارية لها حضورها الرقمي، يروّج له على صفحات فيسبوك وإنستغرام، ويصل إلى حرفاء في تونس وخارجها. لم تعد منتجاتها مجرد مستحضرات طبيعية، بل رمزًا للتمكين الاقتصادي للمرأة ولقدرتها على تحويل شغف بسيط إلى مشروع مستدام يخلق فرص عمل محلية.
" آمنة " ليست مجرد قصة فردية؛ إنها نموذج للمرأة التي لا تبيع منتجات فحسب، بل تعيد تغليف وتقديم " الهوية التراثية " التونسية بلمسة عصرية واحترافية، مما منح منتوجها قيمة مضافة عالية سمحت له بالمنافسة في الأسواق الإقليمية. اليوم، تحوّل شغفها البسيط إلى مشروع مستدام يُشغّل معها أربع نساء من الحي، ليصبح رمزًا للتمكين الاقتصادي عبر تحويل الطاقات التقليدية إلى مشاريع مبتكرة.
" ابتكار يفتح الأبواب للمستقبل "
ولا يقتصر تمكين المرأة على المشاريع التراثية؛ فالإبداع يتجاوز المطابخ إلى الورش التكنولوجية. ففي قلب مدينة بنزرت، تتحرك “سندس”، مهندسة شابة، بين آلات إلكترونية ودارات ذكية في مكتب
صغير تحوّل إلى ورشة ابتكار. . لم يكن مشروعها الناشئ المتخصص في الأجهزة الذكية سهلاً
تقول: "أول ما بديت، قالولي صعيب على مرا تدخل للمجال هذا... أول عقد صناعي عملته بعد عامين من الرفض لكن الإيمان بالفكرة والعمل الجاد حول الحلم إلى حقيقة ."
. اليوم، تعمل "سندس" مع شركات صناعية وتصدّر قطعًا إلكترونية، مُثبتة أن النجاح في التكنولوجيا يجب أن يُروى لكسر الحواجز النفسية. كما يساهم مشروعها في تحقيق هدف اقتصادي وطني بتنويع سلة الصادرات التونسية، وإضافة قطاعات ذات قيمة تقنية عالية بعيداً عن الاعتماد الكلي على القطاعات التقليدية"
سندس" تستقبل يومياً طالبات من المدارس التقنية، لتزرع فيهن الطموح والإبداع، وتؤكد أن قصص النجاح في التكنولوجيا يجب أن تُروى، لتكسر الحواجز النفسية وتدفع الفتيات لتجاوز "عُقدة المستحيل " هنا، كما في مطبخ " آمنة" ، تتجلى قدرة المرأة التونسية على تحويل التحديات إلى فرص، على أن يكون الابتكار والإبداع أدوات قوية للتغيير الاجتماعي والاقتصادي، من التراث إلى التكنولوجيا الحديثة.
الأمل يزهر في القرى
وفي ريف الكاف، حيث تهب نسائم الصباح على الحقول الخضراء، ترتدي نساء المآزر الزرقاء، ويعملن داخل وحدة صغيرة لتربية النحل. هنا تلتقينا " كوثر" أم لثلاثة أطفال،،التي حوّلت فترة بطالة طويلة إلى فرصة عبر الالتحاق بدورة تكوين حول المشاريع الفلاحية.
حيث تنتج اليوم، عشرات الكيلوغرامات من العسل سنويًا، وتوزع منتجاتها عبر تعاونيات محلية، لتصبح مصدر دخل مستدام لها ولعائلتها. تقول بابتسامة فخر:
"مشروعي موش كبير، أما بدّل حياتي… ولّيت نجم نعاون راجلي ونقري صغاري اليوم عسلنا يتباع في 3 ولايات، وبدّل حياتنا."
وتؤكد تجربة " كوثر" الأثر الأعمق لريادة الأعمال النسائية في الريف، حيث تعمل هذه المشاريع كنواة لـ " تثبيت السكان " وتقليص ظاهرة الهجرة الداخلية نحو المدن بحثاً عن العمل، محوّلة بذلك القرى من مجرد مناطق مصدرة للعمالة إلى مراكز إنتاج حيوية.
من مطبخ " آمنة" إلى ورشة " سندس" التكنولوجية، وصولاً إلى خلايا العسل في ريف الكاف، هذه القصص تذكّرنا بأن التغيير يبدأ من شغف صغير، ومن إيمان بأن كل فكرة، مهما كانت بسيطة، يمكن أن تصبح مشروعًا يغيّر حياة فرد، وأسرة، ومجتمع بأكمله.
"كل صورة تحكي نجاحًا "
وفي تونس العاصمة، تظهر تجربة " ريم" ، الطالبة الجامعية السابقة التي وجدت نفسها عاطلة عن العمل. بدأت رحلتها بصنع شموع معطرة في منزلها، وتصويرها بهاتف بسيط، ثم مشاركة صورها على صفحات التواصل الاجتماعي.
" تقول ريم مبتسمة " الانطلاقة كانت صعيبة… التمويل ما كانش موجود، أما المتابعين في السوشيال ميديا عطاوني القوة فكل قطعة احمل فيها قصة تونسية، وكل نجاح للورشة نجاح للمجتمع كله."
اليوم، تدير "ريم" مشغلاً صغيراً يشغّل أربع فتيات، وتستقبل طلبيات من محلات في سوسة وصفاقس ونابل، لتصبح مثالاً حيًا على أن الإبداع لا يحتاج إلا للإرادة.
" الإرادة تتغلب على كل عقبة "
رغم قصص النجاح الملهمة التي تحكيها نساء تونس، إلا أن الطريق لم يكن سهلاً.يجمع كل الرياديات على وجود عراقيل مشتركة اولها التمويل البنكي الذي يفرض ضمانات عسيرة، والإرهاق الإداري وتعقيدات الإجراءات، إضافة إلى نظرة مجتمعية لا تزال، في بعض المناطق، تشكك في قدرة المرأة على إدارة مشروعها الخاص.
ومع ذلك، كان القاسم المشترك يكمن في الإرادة الصلبة والعزيمة التي سمحت لكل منهن بتجاوز هذه العقبات، وتحويل التحديات إلى فرص حقيقية، لتثبت أن النجاح لا يُقاس فقط بالإنجازات، بل بالقدرة على المثابرة ومواجهة الصعاب.
نحو التمويل العادل: المطالبة بـ "قروض الشرف" لتمكين الجيل الجديد من الرائدات
تشير الإحصاءات إلى أن أكثر من 35٪ من المشاريع الناشئة في تونس يقودها نساء، وتتركز هذه المبادرات بشكل خاص في مجالات التكنولوجيا، الحرف اليدوية، والزراعة الحديثة.
هذه المبادرات أظهرت أثراً اقتصادياً ملموساً؛ حيث أكدت دراسةAdvans Tunisie أن 82٪ من الزبونات الإناث لاحظن زيادة في الدخل، بينما قامت 13٪ منهن بخلق مواطن شغل جديدة.
ورغم دعم الحكومة ببرامج مثل "تمكين" و"ألف مبادرة"، فإن الطريق نحو النجاح لا يزال محفوفًا بالتحديات؛ حيث أكدت 68٪ من الرياديات أن "غياب التمويل والضمانات" كان أبرز عائق أمام انطلاقتهن.
ولمعالجة هذه الثغرة، يطالب الخبراء الاقتصاديون بضرورة اعتماد آليات تمويل مبتكرة مثل "قروض الشرف" (Prêts d’honneur)، التي تعتمد على دراسة الجدوى بدلاً من الضمانات العسيرة، إلى جانب إنشاء "شباك موحد" لتقليل الإرهاق الإداري، مما يضمن انطلاقة أسرع وأكثر مرونة لمشاريع النساء.
من مطابخ سليانة إلى القيروان، ومن بنزرت إلى تطاوين، ، إلى ورش تكنولوجيا بنزرت ،إلى تطاوين، تتناغم هذه القصص لتروي رحلة المرأة التونسية في ريادة الأعمال، من الطموح الفردي إلى أثر ملموس على المجتمع. المرأة التونسية لا تنتظر الفرص، بل تصنعها بيديها، وتُصرّ على تحويل أحلامها إلى واقع ملموس يغيّر حياة أسرتها ويترك أثراً واضحاً في مجتمعاتها. في الختام، فإن دعم ريادة الأعمال النسائية في تونس لم يعد مجرد عمل إنمائي، بل هو استثمار استراتيجي يضمن تنويع الاقتصاد، ويُعزز التماسك الاجتماعي، ويُضاعف القدرة التنافسية للبلاد.